الأربعاء، 1 يوليو 2015

حكايات بنات تركن منزل العائلة ولقبن بالهاربات



 عن الأخبار

يختبئن وسط الجموع للتواري عن الأنظار. نفرن من أسرهن بحثاعن حياة أفضل ليصطدمن بواقع أفظع. يجابهن غول مدينة لا ترحم. يدخلن في دوامة تكاد لا تنتهي، أو تنتهي إلى متاهات أخرى. حكايتهن تختلف وتتقاطع مع
قاسم مشترك يتلخص في مفاتيح كلمات من قبيل الفقر، التفكك الأسري، التحرش، الفضيحة. يتخذن من الفضاء المحيط  بالمحطة الطرقية بالبيضاء ملاذا لهن في انتظار بارقة أمل. «الأخبار» اقتحمت عالما خفيا وسط الزحام لفتيات لم يكن ذات طفولة يتوقعن أن ترمي بهن الأقدار إلى ما هن عليه اليوم، وحيدات في مواجهة الجحيم، بعدما أصبحت كلمة «الهاربات» لصيقة بهن في ما يشبه السبة أو اللعنة.



حكايات بنات تركن منزل العائلة  يواجهن الاعتداء والتحرش الجنسي وقسوة الشارع بالبيضاء


وسط الزحام
تحت شجرة ظليلة بمحيط المحطة الطرقية «ولاد زيان»  بالبيضاء جلست فتاتان في شبه عزلة تتحدثان بتكتم وحيطة، وبنظرات متوجسة. حالتهما توحي أنهما من فئة «الهاربات»، المصطلح المتداول هنا بفضاء المحطة لنعت الفتيات النازحات هربا ونفورا من مناطق أخرى بالمغرب صوب العاصمة الاقتصادية بحثا عن بريق نجاة.
المحطة مساء. حركة ورواج بالساحة الأمامية. «كورتية» يحملون تذاكر ويصيحون بأعلى حناجرهم بشكل مستمر في وجه المسافرين وغير المسافرين «مراكش.. فاس.. الجديدة..». يتسابقون لمد الراغبين بالسفر بالتذاكر بدل سحبها من الشبابيك. لهم في ذلك طرق في الإقناع وفي الاستمالة. بالواجهة، جلس أشخاص على حافة أعمدة إسمنتية منهم من يضع حقيبة سفر أمامه، ومن ينتظر شيئا ما دون هدف، فيما شباب يتسكعون بالساحة كما لو كانوا يتربصون بشيء ما.
على جانب المحطة اصطف ماسحو أحذية، منهم قاصرون بوجوه لفحتها أشعة الشمس وعيون بها آثار تعب وأرق. بالقرب منهم، جلست فتاتان في شبه عزلة تتحدثان بتكتم وحيطة، وبنظرات متوجسة، إلى كل من يقترب منهما، في حماية بعض «الشمكارة». شكلهما يشير إلى كونهما من زمرة «الهاربات» وأنهما اعتادتا على المكان. محطة «ولاد زيان» غالبا ما تشكل، في مفارقة صارخة، نقطة استقبال ومتاهة في نفس الآن.




مشهد ليلي
فضاء المحطة، والليل بدأ يسدل خيوطه. بمحاذاة سور المحطة من الجهة الخلفية، متشردون يتأهبون لافتراش «الكارتون» وعباءات متسخة استعدادا للنوم، في وقت أخذ بائعو الوجبات السريعة الشعبية «الحريرة ،البيض، المحراش، أتاي» بعرض بضاعتهم بالجهة الأمامية. أصحاب «الطاكسيات» البيضاء الباقون بمحاذاة الملعب الرياضي «بكار» يركنون سياراتهم في انتظار زبائن الليل المحتملين.
على محيط المقاهي والمطاعم المجاورة، «هاربات» على هيأة «شمكارات» تتسكعن بحثا عما يسدن به رمقهن. فيما جلست أخريات «أفضل حالا» بمقهى مجاورة للمحطة يدخن ويرتشفن كؤوس القهوة والشاي لمزيد من السهر ومقاومة النوم بحثا عن زبون يؤمن لهن قبل كل شيء المبيت «لوكال».




حكايات صادمة
حكاياتهن تتشابه ألما إزاء واقع مثقل بوجع الحياة. لنعيد تركيب المشهد من جديد. فيما كانت الفتاتان «الهاربتان» تتحدثان بتكتم تحت ظل شجرة بالقرب من «شمكارة» يستنشقون مادة «السلسيون»، تقدم موفد «الأخبار» إلى أحد ماسحي الأحذية بالقرب من الفتيات كأي زبون اعتاد مسح حذاءه في هذا المكان. وفي خضم انهماك الماسح في عمله، وكان يافعا ضعيف البنية، سألناه عن حكاية الفتاتين. فضل الصمت ولم يرد، وتظاهر بأنه لم يسمع السؤال. علمنا في ما بعد أنه كان خائفا من أحد «الشمكارة» ذي الندوب البارزة بوجهه يحمي إحدى الفتاتين مقابل تلبية نزواته.
ماسح الأحذية ذاته أخبرنا بعدما انسل من «منطقة الخطر» أن الفتاتين معروفتان هنا بالمحطة منذ أزيد من سنتين، إحداهما ببذلة رياضية وشعر خفيف متشبهة بالذكور قدمت من ضواحي الشاوية تقضي يومها في «الجقير» والبحث عن شي «فيكتيم» كما يقول مرافقنا، قبل أن يضيف بلهجة متثاقلة «في الأول مني طاحت الساطة هنا مكانتش بحال هاكا، كانت زوينة». صمت لحظة وهو ينظر حوله، وظهر أنه كان معجبا بالفتاة. وتابع «أما الأخرى الغليظة فهي مفرعنة جات من شي قرينة ما عنديش معاها». بعد أخذ فكرة عن بعض «الهاربات» اللواتي يتخذن من محيط المحطة فضاء مفضلا، حاولنا الاقتراب من واحدة منهن بسروال «دجين» وقميص رياضي، كانت منزوية وحيدة تدخن سيجارة عند المدخل الرئيسي لدخول وخروج الحافلات. أحد «الكورتية» ساعدنا، بعدما أخبرناه بالمهمة التي تقوم بها «الأخبار» هنا بالمحطة، في فتح حوار مع هذه الفتاة مستغلا سابق معرفته بها. ترددت في البداية، لكنها وافقت شريطة عدم تصوريها أو ذكر اسمها أو اللقب المعروفة به.
«أنا ما عنديش مع هادوك المجلوقات، فيهم غير المشاكل وصداع الراس، وهاد الضربة اللي في عنقي غير جيت نفك وجات فيا». هكذا بدأت حديثها وهي تفتش في جيوب سروالها الخلفية عن شيء ما «أنا بلكارط ديالي غير الظروف والمشاكل» تقول بصوت متثاقل ومتقطع. أخرجت هاتفا نقالا من جيبها، تطلعت إلى شاشته للحظات ثم أرجعته يائسة. يبدو أنها كانت تنتظر مكالمة «هامة». قالت إنها قدمت من منطقة بالشمال بعدما توفيت والدتها وهي في سن المراهقة واضطر والدها إلى الاقتران بامرأة أخرى تقربهم من العائلة «تزوج من العزايات»، تابعت ضاحكة، وبدا حينها أن تسوسا واضحا ينخر أسنانها. رمت بعقب السيجارة متفوهة بكلمة نابية في حق زوجة أبيها. «كانت مفاهمة معايا في الأول لكن من بعد تقلبت علينا أنا وخوتي من مرض الوالد وجلس في الدار»، تضيف الفتاة ذاتها بنبرة حزن. هي الآن تعيش، كما تقول، وسط الذئاب بالمحطة وبأماكن أخرى بالدار البيضاء. تحاول أن تؤمن مكانا لها، بعدما راودتها فكرة الانتحار والتخلص من هذا العذاب أكثر من مرة. تعرضت مرات للاعتداء من طرف المنحرفين، ولمحاولة الاغتصاب الجماعي، لكنها، كما تقول، استطاعت أن تنفذ بجلدها، وقررت أن تدافع عن نفسها بشتى الطرق. «السهير والتجلويق هذي هي حياتي». وبعد فترة صمت وتيهان «بغيناهم يديرو لينا شي حاجة ما شي غير يسولونا ويدوزنا في الإذاعة وصافي». وبصوت مختلف تابعت مخاطبة «الكورتي»، «ختك راها قارية وعارفا كلشي ما تحكرنيش يتوب على ليوتوب» وانفجرت ضاحكة مرة أخرى، كأنها في حالة غير طبيعية. غادرت المكان على الفور بعدما رن هاتفها.     
مرافقنا أخبرنا في ما بعد أن الفتاة لم تكذب في ما قالت وأن لها «معارف» يتصلون بها أحيانا.
في هذا الوقت بالذات كان ماسح الأحذية قد عاد إلى مكانه، فيما «الهاربة» البدينة تتجول بين بائعي بعض السجائر بالتقسيط بالقرب من أصحاب «المأكولات السريعة» بالشارع حيث يجتمع بعض الشبان، تناولت سيجارة من أحدهم وتاهت وسط الزحام. حذرنا «الكورتي» من الاقتراب منها أو من مثيلاتها تفاديا للمشاكل «هادوك مشمكرات شوف غير وجوهم كيف دايرة» يقول مرافقنا، ونصحنا بالعودة إلى المحطة ليلا ليلاقينا مع «هاربة» من نوع «مسالم وهادئ»، وهكذا كان.
قصة أخرى لا تقل تأثيرا. فتاة (21 سنة) بملامح بدوية تبدو عليها حالة الخجل، وإن كانت تحاول إظهار عكس ذلك، كانت رفقة فتيات أخريات جالسات بمقهى بالقرب من فضاء المحطة يغالبن النوم في هذا الليل. نادى عليها مرافقنا باسمها، وأخبرها بمهمتنا. لم تتردد لحظة في الحديث، وظهر أن مرافقنا سبق أن مهد لها الموضوع. حاولت منذ البداية أن تنفي عن نفسها صفة «الهاربة» وقالت «هاد البنات الله لي مطالع عليهم حتى واحد ما كره». ولخصت قصتها في جملة واحدة «الحب يسطي واللي يتيق في الرجال...» وعلت مسحة حزن طارئ وجهها المطلي بـ«مكياج» رخيص.
نزحت إلى البيضاء بحثا في البداية عن عمل بمجال حلاقة النساء بعدما اكتسبت تجربة لا بأس بها في هذه المهنة. اشتغلت بمحل وسط المدينة، واكترت غرفة مع الجيران بحي شعبي معروف بالبيضاء. تعرفت مع مرور الوقت على شاب يشتغل بمطعم بالمدينة نفسها. توطدت العلاقة وتحولت إلى حب وغرام وطيش. «بغيتو وضحك عليا ولد لحر...». وبعد صمت «ما بقاش عندي الوجه اللي نرجع لدارنا» غالبت تأثرها وتابعت بصوت أجش «أنا بنت عائلة».
الفتاة نفسها روت حكاية أكثر قسوة لصديقة لها اضطرت إلى مغادرة أسرتها بعدما كانت تتابع دروسها متكتمة عن تحرش متكرر من أحد أقاربها ولم تستطع مواجهة الموقف، وهربت دون سابق إنذار. وأخرى حاول زوج أمها التحرش بها واغتصابها فيما وقفت الأم في صف زوجها، ولم تستمع إلى رواية ابنتها. الأصعب في الأمر أن أغلب الهاربات خصوصا المراهقات منهن، يسقطن ضحية إدمان المخدرات والكحول، بل ومنهن من يحترفن، إلى جانب الانحراف الجنسي، السرقة و«السطيح»، بعدما تمر عليهن أحداث قاسية من قبل بعض «الزبناء» كحجزهن لمدة أطول في البيت وتعنيفهم، تضيف المتحدثة ذاتها.   




هكذا تحولت محطة «ولاد زيان» إلى ملجأ لفتيات أغرتهن جاذبية العاصمة الاقتصادية


متربصو «الهاربات» 
مرافقنا أخبرنا ببعض المآسي التي تقع بفضاء المحطة كحمل بعض الهاربات على ممارسة الجنس خلسة ليغبن بعدها عن الأنظار، وشجار المتربصين للظفر بالوافدات الجدد من «الهاربات»، الذي يتحول أحيانا إلى شبه قتال خصوصا إذا كانت الوافدة الجديدة «عاطيا العين» حسب تعبير مرافقنا. كما أخبرنا أنه بفضل المراقبة الأمنية الصارمة بالمحطة قلت هذه الحالات، ليحول المتربصون الوجهة إلى مقاهي معروفة بالبيضاء، حيث تقضي أغلب «الهاربات» يومهن.
أحد «الكورتية» بالمحطة أخبرنا كذلك أن صورة الهاربة تغيرت مع مرور الوقت. لم تعد بتلك الصورة النمطية السابقة، فتاة ترتدي «جلابة ونعلا بسيطا وتحمل ميكا كحلة في يدها».
«الهاربات أصبحن الآن بملابس عصرية ويتوفرن على هاتف نقال، إلا بعض الشمكارات». وتابع «كاينين شي وحدين مختصين فيهم وكيشموهم من بعيد، كاجيو يتربصو هنا بحال شي كلاب الصيدة».




غياب مراكز الاستقبال
  قالت نجاة أنور، رئيسة جمعية «ماتقيش ولدي» إن الجمعية تشتغل، بخصوص موضوع القاصرات الهاربات، عندما تتوصل بشكايات بالأمر، موضحة أن الحالات التي عرضت على الجمعية ذاتها حول الموضوع  نفسه «هي حالات قليلة جدا نظرا لكون القاصرات الهاربات يكن في وضعية غير طبيعية، تكون السبب في هروبهن، ولكن مع ذلك نعمل بالآليات المتعارف عليها والخاصة بحمايتهن من جميع أشكال الاعتداء».
وأضافت أنور في تصريح لـ«الأخبار» أنه عندما تتوصل الجمعية بشكاية من قبل قاصرات هاربات «نتدخل لدى المسؤولين ونعمل بالمساطر الجاري بها العمل»، مشيرة إلى ضعف إمكانية استقبالهن والعناية بهن «لكوننا لا نتوفر على مراكز تفي بهذا الغرض». وحول أسباب هروب القاصرات من أسرهن، عزت رئيسة جمعية «ماتقيش ولدي» ذلك، لمعرفتهن بأنهن سيكن عرضة للعقاب بشكليه المادي والمعنوي نتيجة الفضيحة المقترفة، وبأن أول رد فعل سيكون من أسرهن «التي لا تقبل مثل هذا السلوك».





«أغلب الهاربات ينزحن إلى البيضاء لما لها من إغواء وجاذبية»

  •  كيف تفسرون من وجهة نظر علم الاجتماع ظاهرة الفتيات «الهاربات»؟
ننبه بداية إلى أن الظاهرة لا تقتصر فقط على الإناث بل حتى على الذكور، وأن ربط الظاهرة بالإناث «الهاربات» أكثر من الذكور يحيل على نظرة المجتمع إزاء الفتاة التي تترك بيت الأسرة دون علم أحد إلى وجهة أخرى، وما يرتبط ذلك بضرب لقيم أخلاقية وعادات ثقافية لا يجوز للفتاة اقترافها. وبخصوص أسباب هروب بعض الفتيات بالمناطق القروية الهامشية من كنف أسرهن في اتجاه بعض المدن، فهي تختلف من حالة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى، إلا أن القاسم المشترك بين جل الحالات يتمثل في عامل الفقر.
  •  لكن هناك فتيات فقيرات بمناطق مهمشة ومع ذلك لا يهربن من أسرهن؟
صحيح، ولكن نحن نحدد هنا عاملا مشتركا وواقعا قائما دون تعميمه، لأن الفقر المرتبط بعدم الوعي الثقافي والفكري غالبا ما يشكل سببا في وقوع بعض الفتيات بالبوادي أو مدن صغرى في شباك التأثير وإغواء جاذبية المدن الكبرى كما هو شأن الدار البيضاء مثلا، سواء عبر وسائل الإعلام أو التأثير المباشر بأشخاص قدموا من الحاضرة إلى القرية أو إلى أي منطقة مهمشة أخرى. إلا أن الفتيات الهاربات سرعان ما يصطدمن بواقع صعب لا يرحم بمدينة مليونية بحجم الدار البيضاء.
  •  كيف ذلك؟   
هناك عالم اجتماع فرنسي معروف يقول إن «للحاجة دائما وجها خبيثا»، فبقدر ما تظهر مدينة الدار البيضاء بصورتها الجذابة المتمثلة في الشوارع الكبيرة والبنايات الشاهقة، فهي تخفي وراء ذلك وجها آخر قاسيا يجعلها تتحول إلى «مدينة غول» خصوصا أثناء الليل. علينا أن نعلم أن أغلب الفتيات «الهاربات» يفضلن النزوح إلى العاصمة الاقتصادية لأنهن يجدن فيها ما يبحثن عنه، أول شيء «الاختفاء والخفاء» بحكم أن المدينة كبيرة جدا وتعرف رواجا وحركة واسعة، ما يجعلهن متواريات عن الأنظار وسط الزحام. يبحثن عن تحقيق الذات بالنفور من واقع مزر، ويسقطن للأسف في متاهة لا تكاد تنتهي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مــواضــيـع أخــــرى